كيف قضى التلفزيون على رقي الحوار السياسي الأمريكي وجعل العالم أقل ذكاءً. لمحة سريعة حول كتاب Amusing Ourselves to Death
نُشر يوم 12 جانفي 2020 بواسطة يوغرطة بن علي (Youghourta Benali)
يتحدّث كتاب Amusing Ourselves to Death: Public Discourse in the Age of Show Business حول الدّور الذي لعبه التلفزيون في تخفيض مستوى الحوار السياسي الأمريكي وإلحاقه ضررًا بالغًا بذكاء العالم أجمع. الكتاب يركّز بشكل أساسي على أهم خاصّية يتفرّد بها التلفزيون والمُتعلقة بضرورة أن تكون كل محتوياته ترفيهيًا entertainement.
قبل أن أخوض في تفاصيل ما ورد في الكتاب، أود فقط أن أشير إلى أن الكتاب نُشر سنة 1984، أي قبل أن تتطوّر القنوات التلفزيونية أكثر وتعيث في الأرض فسادًا، وقبل أن يظهر الإنترنت ويرث الكثير من عيوب التلفزيون ويجعلها أكثر قوّة وتأثيرًا وتدميرًا.
ربما أفضل ما يخلّص الفكرة العامة للكتاب هي المقارنة التي أوردها الكاتب في بدايته، حيث قارن ما بين رواية 1984 لجورج أورويل ورواية “عالم جديد شجاع” Brave New World لـ ألدوس هكسلي. فإن كانت رواية 1984 ترسم معالم عالم مُظلم يُسلَّط الظلم فيها على البشر من أطراف خارجية، فإن في"عالم جديد شجاع” البشر أنفسهم سيحبون التقنيات التي ستمنعهم حرّياتهم واستقلالهم وحتى قدراتهم على التفكير، ولا حاجة لـ “أخ كبير” يفرض قواعده وقوانينه على المجتمع. ما كان جورج أورويل يخشاه هو أن تُمنع الكُتب وتُحجب، لكن ما تنبّأ به هوكسلي هو عدم وجود الحاجة أصلا إلى منع الكتب وحجبها، بل لن يكون هناك أصلا من سيرغب في قراءتها، فبدل أن نحرم من المعلومة في نظر أورويل فإن هوكسلي يرى بأن تلك المعلومة ستُغرّق في بحر من التفاهة. في 1984 يُتحكّم في الناس بتسليط أنواع العذاب والآلام عليهم، في “عالم جديد شجاع” يتم التّحكّم بهم عن طريقة شهواتهم.
يرى الكاتب أنه وبعد مرور سنة 1984، السّنة التي تدور أحداث رواية أورويل خلالها، ظنّ النّاس أن الكابوس الذي حذّر منه أورويل لم يتحقّق وأن العالم لن يصبح بتلك السوداوية. يرى الكاتب بأن الأمر قد يكون صحيحًا، لأننا بصدد تحقيق نبوءة هوكسلي بدل ذلك.
من بين أهم الأفكار التي وردت في الكتاب:
-
أمريكا دولة أسّسها مثقّفون، أغلب الأمريكيين في القرن 18 كانوا يستطيعون القراءة والكتابة، والمهمّة الأساسية للمدارس في تلك الفترة هي تعليم القراءة والكتابة لأن كل التواصل والحوار السياسي كان تتم عن طريق النشر. أمريكا كانت أمّة تقرأ وكانت الكتب والجرائد والمطويات تنتشر على نطاق واسع خلال تلك الفترة.
-
النقاش السياسي في أمريكا منذ نشأتها كان مطبوعًا بشكل أساسي. حتى لما يكون هناك نقاش وحوار مباشر ما بين عدّة أطراف سياسية، كان النقاش يأخذ شكل النقاش المطبوع، حيث يُعطى لكل طرف متّسع من الوقت لشرح أفكاره، شرح عادة ما يكون قراءة لنص مكتوب، كانت النقاشات تمتدّ إلى 7 أو 8 ساعات في حالات عديدة. طول هذه النقاشات وبنيتها (طريقة عرض الأفكار بشكل متسلسل ومنطقي والرد على أفكار الطرف الآخر) تعطي صورة واضحة ليس فقط على جدّية الأمريكي في تلك الفترة وإنما على مستوى ثقافته (إمكانية تتبّع تسلسل منطقي لساعات) وسعة صدره.
-
الجرائد في تلك الفترة كانت تنشر ما يهم ويفيد المواطن في حياته بشكل مباشر. لم تكن هناك “أخبار عالمية” لا تسمن ولا تغني من جوع.
-
بدأ الانحدار في المحتوى بعد ظهور التيليجرام، حيث أصبح من الممكن نقل الأخبار (حتى التافه منها) بشكل سريع ما بين أرجاء البلد أو العالم بأكمله.
-
تسارع الانحدار بشكل كبير مع ظهور التلفزيون. السبب راجع بشكل أساسي إلى أن وسيلة التواصل تؤثر على المحتوى بشكل أساسي. لتقريب الفكرة ضرب الكاتب مثالًا بالتواصل عبر “إشارات الدخان” smoke signals. يشير الكاتب إلى أنه محدودية هذه الوسيلة تجعل من المستحيل مثلًا التعبير عن آراء فلسفية مُعقّدة من خلالها. بعبارة أخرى وسيلة التواصل medium ستؤثر بشكل كبير على المحتوى. الإشكال مع التلفزيون أن جميع محتوياته تتطلب أن تكون ترفيهية، إن غاب الترفيه منها لم تعد صالحة للعرض على التلفزيون. حتى الأخبار العالمية، خاصة المُتعلّقة منها بالكوارث والحروب لا تحظى بتلك الجّدّية، فتجد مقدّم الأخبار يعرض الخبر بشكل مختصر وسريع قبل أن يمر إلى خبر آخر عن “أجمل قطّة في العالم” أو إعلان تلفزيوني عن هذا المُنتج أو ذاك.
-
أمريكا أصبحت (على الأقل في الفترة التي نشر فيها الكتاب) أمّة تستهلك الترفيه (التلفزيون) بشكل أساسي. حتى النقاشات السياسية يجب أن تصبح ترفيها. تجد مناظرة سياسية بين مترشّحين للرئاسة لا يُسمح فيها لأي طرف سوى بدقائق معدودات، مما يتطلب من المُترشّحين أن يختاروا أقوالهم بدقّة ليس لإقناع المُنتخبين أو لعرض قوة أفكارهم، وإنما لترفيههم ولترك انطباع قوي لديهم.
-
حتى التعليم تأثر بالتلفزيون، وظهرت العديد من البرامج التعليمية على التلفزيون. من جديد الإشكال في وجوب أن يكون المحتوى ترفيهيا، في حين أن التعلّم عادة ما لا يكون ترفيهًا، بل هي عملية جادة تتطّلب جهدًا وتركيزًا.
خلاصة القول: رغبتنا في الترفيه المتواصل جعلتنا نسعى وراء محتويات فارغة، محتويات لم تعد تقدّم ما يفيد. أصبحنا أقرب ما نكون من مدمني المُخدّرات الذين يبحثون عن النشوة وراء النّشوة، ولا يوقفهم سوى جرعة زائدة تقضي عليهم. الإشكال أن وضعنا الحالي أدهى وأمر، خاصة مع تطوّر التلفزيون وظهور قنوات متخصّصة (هل يُعقل أن تكون هناك قنوات إخبارية تبث 24 ساعة في اليوم؟) وتطوّر الإنترنت وظهور الشبكات الاجتماعية التي ورثت جميع مساوئ التلفزيون وضاعفت من قوّتها وتأثيرها.
إن كنت ممن لا يزالون يشاهدون التلفزيون بشكل دائم فسيقنعك هذا الكتاب ليس فقط بالتوقف عن مشاهدته، بل حتى التخلص من جهاز التلفزيون (لن تبيعه لأنك بذلك ستنقل العدوى إلى غيرك، بل ستخلص منه كلّيّة).