هل من المُمكن مُساعدة الفقير ليتخلص من مصيدة الفقر؟ لمحة سريعة حول كتاب Poor Economics (اقتصاد الفقراء)
نُشر يوم 17 فيفري 2019 بواسطة يوغرطة بن علي (Youghourta Benali)
لا أذكر كثيرًا مما درسته عن الفيزياء سواءً في الثانوية أو من بعض المصادر التي اطّلعت عليها بعد تلك الدروس، لكن هناك فكرة علقت في ذهني (وقد لا تكون تفاصيلها دقيقة أيضًا) وهي أن قوانين الفيزياء “العامة” التي نعرفها لا تصلح لدراسة عالم الذّرّة. ورغم التشابه الظاهري لهما (عالم الذرة وما سواه) فإنه وبكل بساطة يستحيل دراسة الواحد بقوانين الآخر.
كتاب** Poor Economics** (**اقتصاد الفقراء**) ينظر إلى الاقتصاد ويدرسه من “منظور اقتصاد الأغنياء مقارنة باقتصاد الفقراء” بنظرة مُتشابهة. ما أقصده بذلك هو أن ما هو مُتعارف عليه وُمسلّم به في العالم الغني (أو بشكل أدق في العالم غير الفقير) هو أمر يجب أن نُعيد فيه النظر من جديد لما ندرس عالم الفقراء واقتصادهم. أي أن مُحاولة لإيجاد حلول للفقراء ودراسة الأمر من فوق البرج العاجي للأغنياء قد لا يوصل إلى نتيجة جيّدة، وقد يكون لها نتائج سلبية.
على سبيل المثال لا الحصر، لنفرض مثلًا أننا نريد القضاء على الملاريا، ووجدنا بأن أفضل الحلول للحد من انتشارها هو النوم تحت ناموسيات تحفظ النائم من لسعات البعوض الذي ينقل المرض. ولنفرض مثلًا أننا أردنا مُساعدة دولة فقيرة للحد من هذا المرض عبر توفير هذه الناموسيات للفقراء. لو فكّرنا في الأمر واستعملنا قوانين “الرجل الغني” لإيجاد حل للمُشكل لربما وصلنا إلى نتيجة أن نرسل ناموسيات مجانية للفقراء في القرى والمُدن الفقيرة في هذا البلد، وهو ما حدث فعلًا كما أشار إليه الكاتب، لكن هل فكّرت في احتمال أن يكون للأمر نتيجة عكسية؟ وهذا ما حدث بالفعل.
ما حدث هو أنه بعد توفر تلك الناموسيات مجانًا لم يجد التجار الذين ألفوا توفيرها بمقابل سوى التوقف عن جلبها نهائيا. بعد فترة وبعد أن تبلى تلك الناموسيات المجانية لن يفكّر أي تاجر (والذي عادة ما يكون فقيرًا هو بدوره أيضًا) بجلب تلك الناموسيات وبيعها من جديد لأنه وبكل بساطة يكفي أن يقوم “الرجل الأبيض/الرجل الغني” بإرسال دفعة جديدة منها ليقضي على كامل نشاطه التجاري. بعبارة أخرى، مُحاولة حل مُشكل الفقراء بعقلية الأغنياء لم يؤدِّ فقط إلى تفاقم الوضع وإنما حتى إلى إلحاق الضرر بأطراف إضافية (التّاجر آنف الذكر).
أمر آخر قد يخطر على بالك لما تسمع عن الفقر في البلدان الإفريقية مثلًا وهو المجاعة، حيث تقترن دائمًا صور المجاعة بأذهاننا كلما سمعنا عن بلد إفريقي فقير، لكن في حقيقة الأمر المجاعة ليست بذلك الانتشار الذي يخطر على البال، كما أن الفقير بشكل عام لا يُواجه بشكل عام مشاكل في توفير عدد السعرات الحرارية المنصوح بها يوميًا، لكن يُواجه مشاكل في توفير السعرات الحرارية النوعية والتي تسمح له كما تسمح لأطفاله بالنمو بشكل سليم، هذا النمو من شأنه أن يُغيّر مستقبل أطفاله وحتى يؤثّر في مستوى مداخيلهم بعد أن يصلوا سن العمل.
وعليه فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يجب على الدول الغنية أن تساعد الدول الفقيرة، أم يجب التوقف عن ذلك لأنه لن يعود بالنفع من أساسه.
الكتاب لا يسعى إلى إعطائك إجابة وافية حول هذا السؤال، وإنما يُحاول أن يعرض عبر سلسلة من التجارب التي تمّت في بلدان مُختلفة، تجارب تعتمد بشكل كبير على “الاختبارات العشوائية المضبوطة” randomized control trials التي عادت ما نجدها في مجال البحث العلمي والطبي، لدراسة الطّرق التي يُمكن من خلالها مُساعدة الفقير. الكتاب أيضًا يُساعد القارئ على فهم التحديات التي يُواجهها الفقير من وجهة نظر الفقير.
فعلى سبيل المثال، إن رأيت فقيرًا يُخصص بعض ماله لشراء أمور تعتقد بأنها ثانوية (كالقهوة والشاي وربما حتى السجائر) وتعتقد أنه لو وفّر المبالغ التي يُخصصها لشراء هذه الأشياء لاستطاع مثلًا أن يستثمرها في متجر صغير أو ما شابه، فاعلم أنك لا زلت تنظر إلى الأمر من زاوية “غير الفقير”. فهذا الفقير لا يملك أي أمل، ولا يرى أي ضوء في نهاية النّفق وبالنّسبة إليه فإن تلك القهوة أو ذلك التلفاز هو أقصى ما يُمكنه أن يأمل في تحقيقه.
نفس الأمر مع مواضيع أخرى مثل، لماذا يدفع الفقير بابنه إلى ترك مقاعد الدراسة ليُساعده في حقله أو في متجره أو لماذا لا يكمل لقاحاته لما يكون طفلًا صغيرًا أو حتى لماذا لا يوفّر بعض الأساسيات لأمه لما يكون في بطنها (مثل الملح المُعالج باليود) لأنّه وبكل بساطة إمّا أنه لا يعلم فائدة الأمر (لم يُخبره أحد بذلك) أو أنه استثمار ليس متأكّدًا من جني ثماره في المُستقبل البعيد.
نقطة أخرى في غاية الأهمية يجب أخذها في الحسبان والمُتعلّقة بالتّوتّر أو الضغط العصبي والذي تكون نسبه لدى الفقراء أعلى، مما يجعل من مهمّة اتخاذ أية قرارات مهمّة صعبة.
من بين الحلول لمشاكل الفقر في العالم الثالث والتي عادة ما نسمع عنها في الإعلام وعن قصص نجاحها نجد مجال “التمويل مُتناهي الصغر” Microfinance والذي عادة ما يُقدّم على أنه حل سحري. الكتاب يستعرض هذا المجال بشكل مُطوّل ويُذكر الكثير من محاسنه، لكنّه أيضًا يُبيّن مدى محدودية الأمر وكيف أنه ليس بتلك الكفاءة ولا الفاعلية التي عادة ما تُذكر في المقالات “التسويقية” عنه. كما أنه يُلمّح إلى كونه مجرد نوع آخر من الربى المُحسّن (ليس من جانب ديني وإنما من جانب عملي بحت).
ذكر الكتاب أيضًا تجربة بدت لي مُذهلة، وهي أنه في العديد من المدارس الابتدائية الهندية لا يُحسن أغلب التلاميذ القراءة ولا الكتابة لكن مستواهم تحسّن بكثير لما ينظمون إلى برامج تأهيلية خاصة يقوم عليها عادة متطوّعون تركّز بشكل أساسي على تعليمهم القراءة فقط. الخلاصة التي خرج منها الكتاب بخصوص هذا الأمر وهو أن التعليم النظامي عادة ما يُركّز على إنهاء المُقرر الدراسي وليس على تحصيل التلاميذ للمعارف.
الكتاب سيُغيّر نظرتك حول الفقير بشكل كبير وسيُساعدك على فهمه بشكل أفضل مما سيُسهّل عليك مُساعدته، سواءً كان هذا الفقير في قرية تبعد عنك آلاف الكيلومترات أو أنه يقطن في نفس المدينة أو الحي الذي تقطن فيه. سيُساعدك هذا الكتاب على النظر إلى الأمور من منظور هذا الفقير.
من الكُتب التي ستفتح عينك على موضوع مألوف لكن من زاوية مُختلفة مما يُغيّر نظرتك لهذا الموضوع وفهمك له.