هل يُمكن التوفيق ما بين التّطور الدارويني من جهة والوعي البشري وحرّية الإرادة من جهة أخرى: لمحة سريعة حول كتاب The Human Instinct
نُشر يوم 30 ديسمبر 2018 بواسطة يوغرطة بن علي (Youghourta Benali)
كتاب عميق ودسم، يدفعك إلى التفكير والتّدبر في مسألة الوعي البشري وحرّية الإرادة من منظور التّطور الدارويني ويُحاول أن يجيب على سؤال “هل لدينا حرّية إرادة إن كنا نتيجة للتّطور الدارويني”.
الكاتب كاثوليكي الديانة والمُعتقد لكّنه من أشد المُؤيّدين لنظرية التّطور ومعروفة عنه ردوده عن الخلقيين والمُدافعين عن نظرية “التصميم الذكي”، لكنّه في المُقابل لا ينحو نحو بعض الشخصيات التي ترفع راية “الداروينية الجديدة” neo-Darwinism أمثال ريتشارد داوكينز أو سام هاريس، بل يُحاول أن يرسم خطًا جديدًا وسطًا، أكثر اعتدالًا خاصّة ما تعلّق منها بالوعي وحريّة الإرادة.
على سبيل المثال ما يذهب إليه هاريس هو أنه وبحكم أننا كبشر لسنا سوى نتيجة للتّطوّر وبحكم أننا نعرف ما يكوّننا، وبحكم عدم إيجادنا لأي “مركز” قرار في أدمغتنا (بعبارة أخرى لسنا سوى مكونات عضوية، وتلك المكونات العضوية لا يوجد ما يميّزها) فإن كل أفعالنا وقرارتنا هي مجرد نتائج لشروط سبق لها توفّرها. بعبارة أخرى “حرية الإرادة” مجرّد وهم وما اعتقادنا بوجود حريّة إرادة إلا نتيجة لنفس لعملية التطور تلك.
لكن لو اعتقدنا بصحّة فرضية هاريس هذه فسنصطدم بما يُعبّر عنه J. B. S. Haldane بالتالي:
“إذا كان عقلي مكوّنًا من ذرّات، ولا أرى ما يمنعني من اعتقاد ذلك، فإنّه حتى الاعتقاد بوجود تلك الذّرات تتحّكم فيه تلك الذّرّات وعليه فإنه لا وجود لما يدفعني لاعتقاد صحّة هذا الادّعاء”.
في رأي الكاتب سبب مُحاربة هاريس وأمثاله لمبدأ حرّية الاعتقاد راجع إلى كونها ركيزة أساسية في الديانات الإبراهيمية، وعليه فإن هجومه عليها قد يكون من قبيل هجومه على هذه الديانات لا غير.
الكتاب يناقش كيف يُمكن للوعي وحرّية الإرادة أن تنشآ في ظل التّطوّر الدارويني. ويُحاول أن يشق طريقًا وسطًا.
لكن قد يكون الجزء الذي دفعني إلى إعادة التفكير بشكل أعمق هو تعريته لمجال علم النّفس التّطوري evolutionary psychology. الخلاصة التي خرجت بها من الكتاب هو أن أغلب ما يُنشر في هذا المجال مجرد تخمينات ليس لها أي أساس علمي، فتجد الدراسة تلو الدراسة تُحاول إثبات أمور سخيفة جدًا وأخرى في غاية الغرابة وتهدف كلها إلى إقناعك بأن هذا السلوك أو ذاك ما هو إلا نتيجة حتمية لعملية التّطوّر.
إن كنت قرأت مقالي السابق حول كتاب The tipping Point أين أشرت إلى أنني أعدت النّظر في ما يُنشر تحت تصنيف “العلوم الشعبية”، فما لم أذكره في ذلك المقال هو أن الكتاب الذي أنا بصدد الحديث عنه هنا هو ما عزّز لدي تلك القناعة، ليس بخصوص كتب العلوم الشعبية فحسب وإنما في الكثير مما يُنشر من دراسات ذات طابع علمي والتي تهدف إلى إثبات نظريات وآراء يصعب حتى التّحقق منها أو إثبات مدى خطأها falsifiability.
الأسبوع الماضي قرأت مقالًا يُلقي الضّوء على جانب من جوانب تلك الدراسات التي تصل إلى نتائج “غريبة” (أو التي عادة ما تجد طريقها بسهولة إلى مقالات وعناوين الصحافة بمُختلف أنواعها). إن كنت مهتمًا بالأمر فألق نظرة عليها من هنا:
عودة إلى كتاب The Human Instinct. إذا لم يكن لديك الوقت لقراءة الكتاب فستجد ملخّصًا لأهم أفكاره في هذا اللقاء:
https://behavioralscientist.org/the-human-instinct-a-conversation-with-ken-miller/
هناك أيضًا عدّة لقاءات على يوتيوب ستجدها هنا:
https://www.youtube.com/results?search_query=The+Human+Instinct+ken+meller
الكتاب فعلًا دسم ويدعو إلى التفكير. أكثر ما أعجبني فيه هو طريقة عرضه لمُختلف الآراء ومُحاول الردّ عليها أو دحضها بأسلوب هادئ بعيد أسلوب “الداروينية الجديدة” والذي عادة ما يكون مُستفزّا أو ينظر إلى مُعارضيه بنوع من التّرفّع(ربما لعب الأداء المُمتاز في النسخة الصوتية من الكتاب -على Audible - دورًا في الهدوء في النقاش الذي أراه في الكتاب أيضًا.). كما أنه استشهد بمصادر عديدة (أشخاص وكتب) يُمكن لمن يرغب في مواصلة البحث في هذا الموضوع الاطّلاع عليها لتكوين فهم أفضل لمُختلف الآراء (والمُعتقدات) في هذا الموضوع.