هل يُعقل أن أغلب الناس يشغلون وظائف تافهة لا قيمة لها؟ لمحة سريعة حول كتاب Bullshit Jobs: A Theory

نُشر يوم 24 نوفمبر 2018 بواسطة يوغرطة بن علي (Youghourta Benali)


إليك المثال التالي: في ألمانيا هناك موظّف مهمّته الأساسية هي نقل بعض المُعدّات التقنية من مكان إلى آخر، وينفّذ هذه المهام بشكل أساسي للجيش الألماني. إلى هنا قد تبدو هذه الوظيفة طبيعية، لكن ماذا لو قلت لك بأن هذا المُوظّف يعمل لدى شركة خاصة، هذه الشركة الخاصة تقدّم خدماتها لشركة أخرى، والتي بدورها تقدّمها لشركة ثالثة هي التي تتعامل مع الجيش الألماني. ليس هذا فحسب، عادة ما يتطلّب نقل المعدات آنفة الذكر من مكتب إلى آخر (في نفس القاعدة العسكرية وربما حتى في نفس المبنى)، وهو ما يتطلب لو قام به العسكري بنفسه 5 دقائق لا غير. لكن لسبب سيتبين لاحقًا، يرسل هذا العسكري طلب نقل المُعدّات، ويصل الطلب إلى المُوظّف آنف الذكر، وبحكم أنه يتعامل مع عدة قواعد عسكرية، فقد يتطلب الأمر منه أن يستأجر سيارة ليقطع المسافة التي تفصل ما بين مقر سكناه وما بين القاعدة العسكرية، يقوم بتحويل المعدات التقنية إلى مكانها، يقوم بملء بعض النماذج التي تثبت قيامه بمهمته على أكمل وجه، ثم يعود إلى منزله. كما هو ظاهر من هذا الوصف يُمكن وصف هذه الوظيفة بأنها وظيفة تافهة.

إن كان لديك شك في تفاهة الوظيفة آنفة الذكر، إليك هذا المثال. موظف آخر يعمل كحارس في متحف. المهمة التي أوكلت إليه هي حراسة غرفة فارغة لا تحتوي أي شيء، وربما منع الزوار من دخولها أيضا. الأدهى والأمر يُمنع على الحارس القيام بأية نشاطات أخرى خلال “قيامه بواجبه المهني” مثل قراءة الكُتب أو الاستماع إلى الراديو. إن لم تقتنع بأن الوظيفة الأولى تافهة، فأعتقد بأنه لا مجال لأن تشك في مدى تفاهة هذه الوظيفة.

يُقدّم الكاتب تعريفًا للوظائف التافهة Bullshit Jobs على النحو التالي: هي تلك الوظائف غير الضرورية/التي لا فائدة منها والتي حتى من يقومون بها يعلمون في قرارات أنفسهم بأنها وظائف تافهة، حتى ولو اضطروا إلى التظاهر بعكس ذلك خاصّة في مقرّات عملهم. وظائف إن اختفت ما بين عشية وضحاها فلن يتأثر العالم بشكل سلبي إطلاقًا، بل سيستفيد، إضافة إلى ذلك لن يلحظ الكثيرون غياب تلك الوظائف ولن يأسفوا على غيابها.

من ذكاء الكاتب هنا هو عدم تحديده لقائمة “هذه قائمة الوظائف التافهة والتي يجب التخلص منها” بل ترك مهمة تحديد مدى تفاهة كل وظيفة لأصحاب تلك الوظيفة.

يوضّح الكاتب بأنه يجب التمييز ما بين الوظائف التافهة وتلك الوظائف “الكريهة” أو التي يمقتها الكثيرون، فعلى سبيل المثال، لا يوجد من يحلم بأن يُصبح مصلحًا لمجاري المياه المُستعملة، أو أن يقوم حتى بحمل القُمامة، فهذه الوظائف ضرورية ومهمّة، لكنها مُنفّرة.

رحلة الكاتب مع مجال الوظائف التافهة بدأت لما طُلب منه كتابة مقال يكون مُثيرًا للجدل، فقرر أن يكتب حول ما لاحظه من أن أعمال الكثير من البشر هي وظائف تافهة، وبعد وصول آلاف الرسائل ممن يعتقدون بأنهم يشغلون وظائف تافهة، قرر دراسة الأمر بشكل جدّي وكانت النتيجة هذا الكتاب. الكاتب لا يحاول أن يصنّف الوظائف بشكل صريح، وإنما نقل ما وصله من رسائل وأوصاف منذ أن نشر المقال آنف الذكر منذ سنوات. العجيب في الأمر أن بعض هذه الوظائف التافهة تدر الكثير على أصحابها، مثل بعض التخصصات في المُحاماة على سبيل المثال لا الحصر.

الكاتب اعتمد على استطلاعات آراء رسمية وأخرى قام بها بنفسه شارك فيها عدد كبير من الناس من مُختلف بقاع العالم حول نظرتهم إلى الوظائف التي يشغلونها “هل تعتقد بأن الوظيفة التي تشغلها هي وظيفة تافهة”، المُخيف في الأمر أن 40 بالمئة من الإجابات أجابت بالإيجاب (أي تعتقد بأن وظائفها تافهة). بعبارة أخرى، إن صحّت هذه الأرقام، وإذا أضفنا إليها نسبة الوظائف التافهة التي لا يرغب أصحابها بالاعتراف بتفاهتها، إضافة إلى ذلك الأعمال التافهة نسبيًا فيتبين لنا بأن البشرية تُعاني من أزمة حقيقية تتعلّق بالعمل، وأننا كبشر نقضي مُعظم أوقاتنا في القيام بأمور نحن في غنى عنها.

المقصود بالأعمال التافهة نسبيًا هي تلك الوظائف التي يُفترض بصاحبها القيام بمهام تافهة، كحضور اجتماعات لا تخرج بأية نتائج، أو كتابة تقارير وملء نماذج لا تُقرأ أبدًا.

لدى سماعك لمُصطلح “الأعمال التافهة” فإن أول ما يخطر على بالك تلك الأعمال/الوظائف في القطاع العام التي لا تقدّم أي فائدة حقيقية، خاصة تلك التي تتطلب الجلوس في مكاتب لساعات طويلة والتظاهر بمدى انشغالك (في حين أنك تبحر على الشبكات الاجتماعية). لكن ما يُشير إليه الكتاب أن القطاع الخاص مليء بمثل هذه الأعمال أيضًا، وهو ما يتنافى مع طبيعة القطاع الخاص بشكل أساسي، حيث يفترض بكل شركة خاصة أن لا توظّف أي موظف فوق حاجتها، كما أنها يُفترض بها أن تقوم بتحسين أدائها بشكل مستمر، بما في ذلك تخلصها من الأعمال التافهة نسبيًا (حضور الاجتماعات مثلا).

حسب الكتاب فإن القطاع الخاص يقوم فعليًا بتحسين أدائه بشكل كبير، لكن للأسف تقع “مطرقة التحسين” هذه على رؤوس من يقومون بأعمال غير تافهة، وهم عادة العمال في المصانع، والمُعلّمين والممرضات، وعمال النظافة وغيرها من الوظائف التي تقع في قاعدة السّلم الوظيفي. لكن كلما ارتقينا في السلم الوظيفة كلما زادت نسبة وأعداد الوظائف التافهة.

فعلى سبيل المثال يتساءل الكاتب لماذا تحتاج جامعة عريقة مثل جامعة أكسفورد إلى عشرات الموظفين في مجال العلاقات العامة، فالجامعة غنيّة عن كل تعريف.

يذكر الكاتب عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارك كينز John Maynard Keynes والذي توقّع سنة 1930 أنه مع بداية القرن الواحد والعشرين فإن البشرية وبحكم التطوّر التكنولوجي الذي ستعرفه، ستنتقل إلى نظام عمل لـ 15 ساعة أسبوعيًا فقط. التوّقع كان في محلّه بشكل كبير، حيث أن البشرية بشكل عام قد تكون فعليًا تعمل في حدود 15 ساعة أسبوعيًا لكل فرد (معدّل)، إلا أن ذلك لم يمنع بملء ما تبقى من وقت لإكمال الـ 40 ساعة التي نعملها حاليًا بأعمال تافهة.

يشير الكاتب إلى أن ظهور وسائل التواصل الحديثة والشبكات الاجتماعية وانتشارها الكبير راجع بشكل كبير إلى مثل هذه الوظائف التافهة، فلو حللنا بيانات الموظفين على الشبكات الاجتماعية وما ينشرونه لتبيّن لنا بأن قسطًا كبيرًا منها يتم خلال ساعات العمل.

يقسم الكاتب الأعمال التافهة إلى 5 أقسام رئيسية:

فيما يخص انتشار الوظائف التافهة في القطاع الخاص يُشير الكاتب إلى أن الأمر قد يكون مقصودًا على أكثر من صعيد. بداية لما تكثر الوظائف التافهة/الوهمية في أي مشروع فإن تكلفة المشروع بشكل كامل ستتضخّم، مما يعود بالنّفع على أصحاب تلك الشركات خاصة لما يكون تعاملها مع القطاع العام أو أنها تعمل في مشاريع تتطلب التعامل مع مبالغ ضخمة (تعويضات مثلًا).

من الأمور التي يركّز عليها الكتاب هو أن أغلب الوظائف لديها رواتب تتناسب عكسًا مع القيمة التي تُقدّمها للمُجتمع (خاصة في الغرب) مع وجود بعض الاستثناءات. فعلى سبيل المثال لا الحصر يذكر كلًا من المُعلّمين والمُمرّضات وعمال النظافة. هذه الوظائف التي لو توقّفت لبعض الوقت أو لو -لا قدّر الله- اختفت فإن المُجتمعات الإنسانية ككل ستتضرّر بالغ الضّرر، لكن مع ذلك فإن رواتبها من بين الأدنى بشكل عام. في المُقابل تجد المُدراء التنفيذيين، المسؤولين في مُختلف المراتب في الشركات middle management، المُحامون في قطاع الأعمال corporate lawyers والمضاربون في أسواق الأسهم كلّهم يتلقّون رواتب ضخمة، رغم أنه لو اختفت أغلب هذه الوظائف لن تتضرّر البشرية، بل قد تستفيد في حالات عديدة.

يستثني من المُلاحظة السابقة بعض الوظائف مثل الأطبّاء، رغم أنه يُشكّك في الخدمات الكبيرة التي عادة ما تربط بقطاع الأطبّاء، حيث يُشير الكاتب إلى أن التحسينات الملحوظة في مجال الصّحة خلال العقود الماضية راجعة بشكل أساسي إلى تطوّر وسائل النظافة أكثر منها إلى تطور مجال الطّب بشكل عام.

يشير الكاتب إلى أن الوظائف التافهة وبحكم تفاهتها فإنها عادة ما تتطلّب رواتب أعلى حتى يبقى فيها أصحابها لمدّة أطول. يشير أيضًا إلى وكأن هناك قناعة لدى البشر بأن الأعمال النافعة (مثل التعليم مثلًا) مُجزية في حد ذاتها (يعني سيحس صاحبها بأنه يؤثّر وبأنه يفيد) وبالتالي وكأن البشرية قررت أن تعاقب أصحاب هذه الوظائف: “لديك وظيفة مُجزية وفوق كل هذا تطلب راتبًا عاليًا؟ كيف تجرؤ على طلب ذلك؟”

يشير الكاتب أيضًا أننا كبشر نحاول إيجاد معنى في كل شيء وفي كل ما نقوم به وأن أحد أقسى أنواع التعذيب النفسي التي يُمكن أن يتعرض لها أي شخص هو غياب ذلك المعنى وعدم الإحساس بأننا نؤثر في العالم الذي يحيط بنا. يسمي الكاتب هذه الظاهرة بـ"العنف الروحاني” spiritual violence. لتجنب هذا العنف نجد مثلًا أن السجناء يفضّلون شغل وظائف داخل السجن، حتى ولو لم تعد عليهم بالنفع ماديًا أو كان العائد محدودًا بل الجلوس طيلة اليوم دون عمل أو لمشاهدة التلفزيون.

يذكر الكاتب مقولة لجورج أوريل (صاحب روايتي 1984 وحديقة الحيوانات) يقول فيها “الهدف من الوظائف التافهة هي الخوف من التجمهر… من الأفضل أن تبقيهم مشغولين على أن تسمح لهم بالتفكير”

يلقي الكاتب الضوء على دور السياسة في الإبقاء (بل وإنتاج) الوظائف التافهة. يقتبس الكاتب مقولة لأوباما لما طُرح عليه سؤال بخصوص التخلص من نظام الرعاية الصحي الخاص (القطاع الخاص) واستبداله بنظام موحّد أكثر كفاءة سيوفر مليارات الدولارات فيما يتعلّق بالجانب الإداري فقط. إجابة أوباما كانت غريبة جدًا ودليلًا قويًا على علاقة السياسة بالوظائف التافهة، حيث قال أن توفير تلك المليارات يعني فقدان بضعة ملايين وظيفة كانت تُشغل في قطاع الرعاية الصحي الخاص. بعبارة أخرى، أوباما أقر بأن عدم تحسين الرعاية الصحي للأمريكيين راجع إلى عدم رغبة السياسة في التخلص من الوظائف التافهة التي يوفّرها القطاع الخاص في مجال الرعاية الصحّيّة.

السياسة الداخلية للشركات الخاصة أيضا تمثّل عائقًا كبيرًا للتخلص من الوظائف التافهة. يضرب الكتاب مثالا بموظف بنك مهمّته هو تحسين أداء البنك على جميع الأصعدة. يشير الموظف إلى أنه طيلة عمله لصالح نفس البنك لم تنفّذ أيا من التوصيات التي قدّمها لأنها وبكل بساطة كانت تلك التوصيات كفيلة بالقضاء على عدد مُعتبر من الوظائف (تصنيف “الحاشية” في التقسيم آنف الذكر) مما يعني بأن المدراء الذين عارضوا توصياته كانوا يرغبون في الظهور بمظهر “الشخص المهم” وهو المظهر الذي يعتمد بشكل أساسي على أعداد الأشخاص الذين يعملون تحت إمرتهم.

بحكم أن أغلبة البشر يضطرون إلى القبول بمثل هذه الوظائف التافهة رغم الضرر الذي تلحقه بهم (العنف الروحاني آنف الذكر) يستعرض الكاتب أحد الحلول التي من شأنها أن تقضي على هذه الظاهرة بشكل كبير وهو مبدأ “الدخل القاعدي العام” universal basic income، والتي تقوم على أساس صرف راتب شهري يسمح لكل فرد تغطية الحاجات الأساسية له والعيش حياة كريمة. بهذا الشكل فإننا لن نضطر إلى القبول بأية وظائف تافهة لأنه لن تكون هناك حاجة ماسة لها. قد ينتج عن ذلك طبقة من “المُستغلّين” الذين يستفيدون من هذا الدخل دون البحث عن أية وظيفة أو عمل وهذا أمر مُتوقّع، لكن سيسمح لباقي البشر استغلال أوقاتهم على أحسن وجه، بل وحتى اختيار وظائف يكون لها تأثير إيجابي على المجتمع.

الكتاب في غاية الأهمّيّة وأنصح الجميع بقراءته. من المُحتمل أن تتغير نظرتك للعمل بشكل كبير بعد فراغك من قراءة هذا الكتاب.

فيديو يقدّم فيه الكاتب الفكرة الأساسية للكتاب: