هل يُمكن أن نصنع النّجاح؟ أم أنه مُجرّد حظّ؟ قراءة في كتاب Outliers
نُشر يوم 8 ديسمبر 2016 بواسطة يوغرطة بن علي (Youghourta Benali)
هل تُحب قراءة قصص النّاجحين وتتمنى أن تكون واحدًا منهم؟ هل تُعجب (أو تُبهر) بتلك القِصص، وتُذهل للطريقة التي بنى كل واحد منهم قصّة حياته؟ كتاب outliers (النّاجحون الخارقون؟) للكاتب مالكوم جلادويل Malcolm Gladwell سيُغيّر نظرتك إلى الأمور بشكل جذري، حيث أن وراء كل قصة من هذه القِصص (الجزء الظاهر منها) عوامل كثيرة لا تتم الإشارة إليها (الجزء المخفي من جبل الجليد)، عوامل يكون الحظ هو القاسم المُشترك بينها.
إن كان لويس باستور يقول “إن الحظ يفضّل أصحاب العقول المستعّدة” “Chance Favors The Prepared Mind” (ربما المقولة في نسختها الفرنسية “أجمل” حيث تقول “La chance ne sourit qu’aux esprits bien préparés.” والتي يُمكن ترجمتها إلى “الحظ لا يبتسم سوى للأرواح المُستعدّة”) فإن الكاتب مالكوم جلادويل يضيف إليها عوامل كثيرة لتصبح: “الحظ يفضل أصحاب العقول المستعدة الذين ولدوا في العام المُناسب وفي الشهر المناسب وفي المكان المناسب وفي الظروف المناسبة وضمن البيئة المناسبة وفي العائلة المناسبة التي تملك الصداقات المناسبة” بعبارة أخرى، الناجحون الخارقون للعادة (الذين يُطلق عليه الكاتب وصف Outliers) ليسوا سوى نتيجة حظ، حظّ تصادف مع عقل جاهز لاستغلال الفرصة.
أودّ التوضيح هنا بأن الكتاب يتحدث عن “النجاح الخارق للعادة” الذي يُميّز أفرادًا مُعيّنين تركوا بصماتهم على وجه المعمورة، ناجحون من طينة بيل جيتس و ستيف جوبز ومن سار في فلكهم.
أهم أفكار الكتاب (من وجهة نظري):
قاعدة 10 آلاف ساعة
لكي تصبح خبيرًا في مجالك، وهو الأمر الذي يُعتبر ضروريًا لأي نجاح (حتى ذلك النّجاح الذي لا يضعك في قائمة الـ Outliers) فستحتاج على الأقل إلى 10 آلاف ساعة من التدريب الجاد والمتواصل في مجال تخصّصك. لتوضيح الصّورة. إن كنت تعمل بدوام كامل (8 ساعات) طيلة الأسبوع على تحسين قدراتك في مجال تخصّصك فستحتاج إلى نحو 5 سنوات لتكمل هذا القدر من الوقت. على سبيل المثال بيل جيتس أكمل هذا العدد (10 آلاف ساعة) من البرمجة وهو لا يزال في ربيع شبابه وحتى قبل أن يُطلق شركة ميكروسوفت في بدايات عشرينياته. نفس الأمر مع أي عظيم قد صادفتك قصّة نجاحه من قبل.
إن كنت مُهتمًا بتفاصيل هذا الجانب أكثر فأنصحك بالاطّلاع على كتاب Mastery لكاتبه Robert Greene والذي -وبحكم أنّه خصّص كتابًا كاملًا لهذه النقطة بالذات- تجده قد فصّل الأمر بشكل أفضل (الأمر ليس له علاقة بعدد الساعات في حد ذاتها بقدر ما هو مُتعلّق بنوعية وجودة التدريب).
تاريخ الميلاد يلعب دورًا محوريًا في النّجاح الخارق
ما هي القواسم المُشتركة لكل من بيل جيتس، ستيف جوبز وبيل جوي (مؤسس Sun)؟ هناك قواسم مشتركة كثيرة قد يكون إكمالهم لـ 10 آلاف ساعة من التدريب في مجالاتهم في سن مبكّرة جدًا أحدها، لكن الأمر لم يكن ممكنًا لو وُلِد ثلاثتهم في الوقت غير المناسب حيث ولدوا كلهم (وغيرهم من عظماء التقنية) ما بين 1954 و 1956.
ما الذي يميّز هذه الفترة بالضّبط؟ ببساطة من ولد في هذه الفترة سيكون صغير السّن بما فيه الكفاية ليتعلم أبجديات التقنية ويتقنها في صباه، وسيكون كبيرًا بما فيه الكفاية لما اندلعت شرارة الشركات التقنية في وادي السيليكون في أواخر ستينيات وبداية سبيعنيات القرن الماضي. بعبارة أخرى، إن ولد أيهم قبل هذه الفترة فقد يكون “أكبر” من اللازم لما اندلعت شرارة التقنية في وادي السيليكون (قد يكون قد وجد وظيفة في مكان آخر)، وإن وُلد بعد هذا التاريخ فقد يكون لا يزال صغيرًا جدًا ليدخل سوق العمل في الوقت المناسب.
قد يقول قائل، هذه أمثلة شاذّة، تُحفظ ولا يُمكن القياس عليها. بداية، ليس أمثلة شاذة، ستجد في الكتاب أمثلة أخرى لأشخاص ناجحين ولدوا في الوقت المناسب أيضًا وساهم ذلك في تحقيق نجاحات خارقة. لكن هناك مثال آخر لا يُمكن إنكاره حيث أنه مثال يتكرّر كل سنة.
في بطولة الهوكي للشباب في كندا youth-hockey leagues يتم تحديد الفاتح من يناير كالحد الفاصل بين من يقبل ومن لا يُقبل في فرق الهوكي (أطفال بأعمار9 سنوات). بعبارة أخرى، سيقبل جميع الأطفال المولودين في نفس السّنة ليلعبوا مع بعض وهو ما يبدو أمرًا منطقيًا ومقبولًا، أليس كذلك؟
لكن إليك الوضع التالي: لنفرض أنه لدينا طفلان، عمر وسعيد، عمر وُلد بتاريخ 31 ديسمبر من سنة مُعيّنة وعمر وُلد في اليوم التالي أي في 1 يناير من العام الذي يليه. لكلا الطفلين نفس العمر (يوم واحد بينهما) لكن سيقبل عمر للانضمام إلى فريق الهوكي لهذا العام، لكن سيرفض سعيد وسيقبل فقط في فريق العام القادم.
ما الذي يحدث في هذه الحالة؟ سيجد سعيد (الذي ولد بتاريخ 1 يناير) نفسه في فريق يكون هو أكبرهم سنا فيه وعليه سيكون أضخمهم جسمًا وأقواهم وستكون لديه فرصة ليفرض نفسه على باقي أعضاء الفريق. وعليه، سيحصل على اهتمام أكبر من المُدرّبين فرص تدريب أكثر وأفضل وإمكانية أن يرتقي في الدرجات ليصبح لاعب هوكي مُحترف. وهو بالفعل الأمر الذي يحدث حاليًا وكل سنة في بطولات الهوكي في كندا.
بعبارة أخرى سعيد ولد في التاريخ المناسب الذي وإن اقترن مع التدريب المتواصل (قاعدة 10 آلاف ساعة السابقة) سيفتح له بابا للنجاح الخارق.
لو ألقنا نظرة على أفضل لاعبي الهوكي المحترفين في كندا كل سنة سنجد أن الأغلبية الساحقة منهم ولودوا في النصف الأول من السنة. وستلاحظ نفس الأمر في كل رياضة يتم قبول الأطفال فيها حسب تواريخ ميلادهم (أيا كانت الرياضة).
الأدهى والأمر أن هذا الوضع يحدث أيضا في المدارس، حيث أنك ستجد في نفس الفصل الدراسي أطفالا قد يكون الفارق بينهما يصل إلى 10 أشهر أو يزيد، فتجد أن الطفل الأكبر سنًا يحظى باهتمام أكبر من المُعلّم لأنه يبدو “أهدأ” وأكثر تركيزًا من غيره، في حين أن المسألة مسألة تاريخ ميلاد فقط.
الحل في نظر الكاتب هو تخصيص فصول دراسية وفرق رياضية (وأي نظام يعتمد على تاريخ الميلاد) عديدة خلال السّنة. فلو طبّقت كندا هذا النظام على لاعبي الهوكي لديها (يعني فرق للمولودين في نصف السنة الأولى وفرق للمولودين في النصف الثاني) لنتج لديها ضعف عدد لاعبي الهوكي المحترفين سنويا. ونفس الأمر مع المدارس، لو نُضّمت دورتان كل سنة (دورة صيفية وأخرى شتوية) لحصلنا على أضعاف “الأذكياء” الذين ستكون لديهم فرص أفضل لدخول جامعات عريقة.
المزيد لا يعني دائمًا أفضل
لتحقيق نجاح في أي مجال تحتاج أن تملك قدرات مُعيّنة تسمح لك بالتّميز عن غيرك، فعلى سبيل المثال لتكون لاعب كرة سلّة فستحتاج إلى قامة مُعيّنة، ولتأمل أن تصبح عالمًا مُتخّصصا في مجال ما أو أن تحصل على جائزة نوبل فتحتاج أيضًا أن تملك نسبة ذكاء مرتفعة نسبيًا. لكن هل هناك علاقة خطّيّة ما بين المسبّبات والنتائج؟ بعبارة أخرى هل يعني ارتفاع معدل IQ الخاص بك أن احتمال حصولك على جائزة نوبل سيرتفع؟ الجواب هو “لا”، حيث أن العلاقة ليست خطّيّة. صحيح بأن طول لاعب كرة السّلة سيلعب دورًا مهمًا في مجاله، لكن بمجرد أن يتجاوز طولًا مُعيّنا لا تؤثر الزيادة كالسّابق. نفس الأمر مع كبار الباحثين والحاصلين منهم على جوائز نوبل مثلًا. لديهم مُستوى ذكاء مُرتفع لكن لن تجد ضمنهم أيّا ممن يحملون أكبر معدّلات اختبار IQ.
ما الفائدة التي يُمكن أن نخرج منها من هذه النقطة بالذات؟ يسلّط الكاتب الضوء على الجامعات التي تسعى إلى قبول أفضل الطلاب وفقط. في هذه الجامعات المرموقة وخاصة تلك التي تُخصص عددا من مقاعدها للأقليات ممن لا تتوفر فيهم بالضرورة المواصفات التي مكّنت بقية أقرانهم من حجز مكان في الجامعة، وجد الكاتب بأن المُتخرجين من هذه الأقليات (الذين يعتبرون “أقل” تأهيلًا من أقرانهم من “البيض” لما دخلوا الجامعة للمرة الأولى) لا يقلون نجاحًا عن أقرانهم في الحياة العملية. بعبارة أخرى، إن امتلك الطالب حدًا مُعيّنا من الإمكانيات التي تسمح له بأن يمضي حياة جامعية خالية من المشاكل، فإن حظوظ نجاحه بعد خروجه من الجامعة (المنصب الذي يشغله، الراتب …) لا تقل عن أي من أقرانه.
إن كنت مهتمًا بهذه القضية بالذات فأنصحك بقراءة كتاب آخر لنفس الكاتب والمُعنون David and Goliath.
تاريخك وتاريخ آبائك وأجدادك وإرثك الثّقافي يؤثّر على مستقبلك ونجاحك
ما الذي يجعل الشّرق آسيويين يتميّزون عن ما سواهم في الرّياضيات وغيرها من التّخصّصات المُعقّدة؟ هل تصّدّق لو قلت لك بأن السّبب هو أن الشعوب الآسيوية تعتمد على الأرز كغذائها الرّئيسي؟ لا تستعجل وتقرر بأنّك ستأكل من الآن وصاعدًا الأرز فقط. الأمر راجع إلى ثقافة زراعة الأرز وليس إلى استهلاكه بالضّرورة.
على عكس المحاصيل “الغربية” كالقمح والشّعير مثلًا والتي تتم في مواسم مُعيّنة، أين تُحرَث الأرض في الخريف وتُحصد المحاصيل في بداية الصّيف، ومن ثم ترتاح الأرض ويرتاح معها الفلاحون خلال الصّيف، فإن زراعة الأرز عملية لا راحة فيها ولا انقطاع، وتتم بشكل متواصل طيلة العام (عدّة محاصيل)، كما أنها عملية تتطلب متابعة وعملًا دائمين متواصليين طيلة العام.
بعبارة أخرى، الثقافات الشّرق آسيوية هي ثقافات تمجّد العمل الجاد الدّؤوب والمتواصل والذي يميّز عادة الأعمال التي تحتاج إلى نفس طويل. هذه الثّقافة تلقي بظلالها على التّحصيل الأكاديمية، وتجد بأن الطالب الصيني مثلًا، يبذل جهدًا مٌضاعفًا مُقارنة بالطّالب الغربي وهو ما يؤهّله للتّميّز وللنّجاح في مجالات تحتاج إلى نفس طويل وإلى صبر وعمل دائم مثل الرّياضيات.
في حين أننا نجد بعض الأمثلة العربية، كالمثل الجزائري الذي يقول “كل عطلة فيها خير” فإننا نجد أن للصينيين مثلًا مُغايرًا يقول “لن يفشل أي شخص يستيقض 360 يومًا في السنة قبل الفجر في أن يجعل عائلته غنيّة”
قد لا يكون تأثير “التاريخ” والموروث الثقافي إيجابيا فقط، حيث يستعرض الكاتب الكوارث والمشاكل التي واجهت شركة Korea Air والتي تعود بشكل كبير إلى أن الثقافة واللغة الكوريتين تحترمان من هو في درجة أعلى (في السّلم الوظيفي أو في غيره) لدرجة قد تمنع من هو في درجة أدنى كمساعد الطّيار في أن يُشير بشكل واضح وصريح إلى خطأ يرتكبه من هو أعلى منه درجة (الطّيار) وهو ما تسبب في عدّة كوارث جوّيّة في الشّركة.
إحدى الحلول التي ساعدت شركة Korea Air في الخروج من محنتها هي اعتماد الإنجليزية كلغة التّخاطب الأساسية في الشّركة، وهو ما رفع “الحرج” على مساعدي الطّيّارين وغيرهم في الإشارة إلى الأخطاء والتّنبيه إليها في حال حدوثها.
خلاصة
إن كنت ترغب في قراءة كتاب لتحقق نجاحًا خارقًا فقد لا يكون هذا هو الكتاب الأنسب لك، على الأقل هذه هي الخلاصة التي خرجت بها.
الكتاب -في رأيي- يسعى إلى إعطاء توجيهات عامة لصنّاع القرار خاصّة في الحكومات والشّركات والجامعات، وربّما حتى للأولياء لتوفير الجوّ الذي يسمح بظهور ناجحين خارقين.
بعبارة أخرى، وفي مُحاولة للإجابة على السّؤال الذي طرحته في البداية، قد لا تكون صناعة النّجاح الخارق مُمكنة، لكن توفير الأجواء اللازمة له للظهور وللنمو هو أمر مُمكن. لا تنس بأن الحظ لا يبتسم سوى للأرواح المُستعدّة :)
رابط الكتاب على موقع أمازون: http://amzn.to/2hasY0N