قراءة في كتاب "Superforecasting: The Art and Science of Prediction”
نُشر يوم 15 جويلية 2016 بواسطة يوغرطة بن علي (Youghourta Benali)
هل يُمكن أن نتنبّأ بالمُستقبل؟ إلى أي مدى يُمكننا القيام بذلك؟ هل يُمكن تحسين تنبّؤاتنا لتصبح أكثر دقّة؟ وهل هناك متنبئون خارقون Superforecasters بإمكانهم التّنبّؤ بشكل أدق من غيرهم؟ هذه هي الأسئلة (وغيرها) يدور حولها مُحتوى كتاب Superforecasting: The Art and Science of Prediction (المتنبّئون الخارقون: فن وعلم التّنبّؤ)
قبل أن تخرج قائلًا بأنه “لا يُمكن التنبّؤ بالمستقبل” أو “أي محاولات للتنبّؤ ستبوء بالفشل” أرغب في أن الأمر لا يتعلق بـ “التّكهّن” كما قد يخطر على بالك بل هو استقراء للقادم بناء على دراسة للماضي والحاضر. فمِثلما تلقي نظرة على أحوال (تنبؤات) الطّقس قبل أن تخرج من بيتك لتعرف إن كان يجب عليك أخذ مظلّتك، يقوم آخرون بدراسة ماضي شركة مُعيّنة قبل الاستثمار في أسهمها (التّنبؤ بمستقبل الشّركة والاستثمار بناء على ذلك) وتقوم دول أخرى بالتّنبؤ بالتغيرات السياسية والاقتصادية قبل أن تحدث لتحضّر نفسها للأمر بشكل جيد. بعبارة أخرى، المقصود بالتنبّؤ هنا هو استقراء واستشراف للقادم بناء على أسس علمية وقواعد مدروسة.
عملية التّنبؤ محدودة وتشوبها شوائب عديدة لكن مع ذلك يجب القيام بها
التّنبؤ -مثلما سبق وأن أشرت إليه- أمر نقوم بها بشكل دائم، سواء تعلّق الأمر بأمور اقتصادية (هل أتوقع/أتنبّؤ بنجاح المشروع الذي أقدم عليه) أو شخصية (هل أتوقّع نجاح زواجي بهذا الشّخص) أو غيرها.
إلّا أن تغيرًا طفيفًا هنا أو حادثًا هناك قد يُغيّر مجرى ذلك التّوقع بشكل جذري. عادة ما يُعبّر عن هذه الظّاهرة بـ “تأثير الفراشة"butterfly effect، والذي يُلخّص عادة في مقولات مثل: “قد يتسبب ضرب فراشة لجناحها في البرازيل في إحداث إعصار في كولورادو”. تمامًا مثل أن إضرام بائع خضر متجوّل النّار في جسده في بلدة صغيرة في تونس أدّى إلى سقوط رؤساء في دول واندلاع حروب أهلية في أخرى.
لكن ما الذي يجعل بعض المجالات دقيقة في تنبّؤاتها في حين أن مجالات أخرى من النّادر أن نجد فيها تنبؤًا دقيقًا؟ السّر يكمن في قياس مدى دقّة التّوقعات السّابقة وتصحيح “نظام التوّقع” بناء عليها. ولهذا مثلًا نجد أن تنبؤات الطّقس دقيقة إلى حد كبير (على المدى القصير) مُقارنة بغيرها من المجالات، لأنه مجال يُمكن أن تُجرى فيه عمليات تنبّؤ مستمرة (تنبؤ واحد كل يوم على الأقل) كما أن حلقة التّغذية الراجعة feedback loop قصيرة وسريعة (يكفي أن تنتظر 24 ساعة لتعرف إن كان توقّعك لجو اليوم التّالي دقيق). وعليه فإن أول مبادئ التّوقع الرئيسية هو قياس دقّة التّوقعات بشكل مستمر.
التنبؤات التي يصعب / يستحيل قياس مدى دقّتها
قل يخطر على بالك التّالي: إن كان مجرد قياس دقّة التوقعات (الأمر الذي يبدو بديهيًا، أليس كذلك؟) كفيلة بتحسين أداء التنبؤات فلماذا لا زلنا نحصل على تنبؤات خاطئة بشكل دائم؟ المشكل يكمن في أن التوقعات التي يُطلقها “الخبراء” بشكل متواصل تستعمل لغة يصعب قياسها. بعبارة أخرى، يستعمل هؤلاء “الخبراء” مصطلحات مطّاطية يسهل مدّها وسحبها لتشمل وتعني أي شيء.
فعلى سبيل المثال استعمال مُصطلحات مثل “يُمكن” (Could)، “يُحتمل” (Might)، “مرجّح” (Likely) التي تزيّن تلك التنبؤات والتوقعات تحمل معاني مُختلفة حسب اختلاف “الخبراء” الذين يستخدمونها، وقد يستخدمها نفس الخبير لتدل على أمرين مُختلفين معًا. فلما يتوقع خبير ما بأن حدوث أمر مُعيّن هو أمر ممكن أو مُرجّح، فقد يقصد به أحدهم هو أن هذا الاحتمال هو 20 بالمئة في حين قد يقصد آخرون أن الاحتمال هو 90 بالمئة.
الحل هنا يكمن في دفع هؤلاء الخبراء إلى إعطاء قيمٍ رقمية لتوقعاتهم، فلما تسمع مثلًا بأن احتمال ارتفاع سعر سهم شركة ما هو 90 بالمئة سيعطي انطباعًا أقوى من الاحتمال الذي “يرجّح” حدوث ذلك بنسبة 20 بالمئة فقط.
تقييم مدى دقّة التّنبؤ والاحتفاظ بسجل التوقعات السابقة
رغم كل ما سبق ذكره لا يُمكن ضمان تحسن التنبؤات ودقّتها ما لم نطبق عليها مبدأ “ما يُمكن قياسه يُمكن تحسينه” (What gets measured gets improved.)
في عالم التنبؤات هناك مقياس يُدعى “مقياس برير” Brier score والذي يقيّم مدى دقّة التنبؤات ويعطيه قيمة تتراوح ما بين 0 (تنبؤ دقيق جدًا متوافق بشكل كامل مع ما حدث) و 2.0 (تنبؤ مجانب للواقع بشكل كامل). على هذا السّلم/التقييم تحصل التنبؤات العشوائية على قيمة 0.5
ولدراسة إمكانية تحسين دقّة التنبؤات صمّم المؤلف مع فريق بحث ممول من الإدارة الأمريكية دراسة/تجربة أطلقوا عليها اسم Good Judgment Project والتي اشترك فيها آلاف المُتطوّعين الذين قاموا بالإجابة على أزيد من مليون سؤال (توقّع حدوث أمور معيّنة) على مدار 4 سنوات. الأسئلة المطروحة كانت أسئلة تحتمل إجابة بنعم أو لا مثل “هل تتوقع تراجع قيمة اليورو تحت قيمة 1.2 دولار خلال الأشهر الإثني عشرة القادمة”. حيث “يفتتح السؤال” ويبقى مفتوحًا لمدة قد تمتد لأسابيع أو أشهر، ويُطلب من كل مشارك أن يعدّل تنبّؤه كيفما ووقتما شاء خلال تلك الفترة. على سبيل المثال قد يتوقّع أحدهم أن تنخفض قيمة اليورو إلى أقل من 1.2 دولار خلال الأشهر الإثني عشرة القادمة بنسبة 70 بالمئة، ثم قد يقرأ تقريرًا في جريدة مرموقة أو دراسة ويعدّل توقّعه مثلا إلى 60 بالمئة بعد ذلك. مع إمكانية إن يجري أي عدد من التعديلات خلال فترة طرح السؤال.
من هم المتنبئون الخارقون
في مشروع Good Judgment Project آنف الذّكر، طفت إلى السّطح مجموعة من المُتنبّئين كانت توقّعاتهم دقيقة بشكل مُذهل رغم أن أغلبهم كان يُطلق تنبّؤات في مجالات بعديدة كل البُعد عن تخصّصاتهم. هذه النّتائج دفعت بفريق عمل المشروع إلى دراستهم عن كثب لمعرفة “السّر” وراء توقّعاتهم الدّقيقة ولمعرفة ما إذا كانت هناك أنماط مُعيّنة يُمكن تكرارها للحصول على نفس النّتائج.
المتنبئون الخارقون يقسّمون أي سؤال إلى أجزاء أصغر يسهل التّحكم فيها قبل أن يطلقوا توقّعاتهم
ما الذي يميّز متنبئا خارقًا (حتى وإن لم يملك أية خبرة في المجال التي يُحاول أن يتنبأ بأمر فيه) عن باقي المتنبئين الذين تكون تنبؤاتهم أسوأ من مجرد التنبؤ العشوائي (أو كما يُقال “أسوأ من شامبانزي يُحاول إصابة هدف مُعيّن بسهم”)؟ أحد أهم ميزاتهم هو أنه لا يسارعون إلى إطلاق تنبؤات عامة دون تحليل السؤال المراد التنبؤ بإجابة له إلى وحدات أصغر. تنسب عادة هذه التقنية إلى العالم الفيزيائي Enrico Fermi (أحد مطوري القنبلة الذريّة) والذي يقال عنه أنه كان يطلب من طلبته (في وقت لم تكن الإجابات على بعد نقرة واحدة على الإنترنت) أن يتوقّعوا عدد الـ piano tuners (شخص يقوم بضبط البيانو) في مدينة مثل شيكاجو دون أن بيانات أو معلومات مسبقة حول الأمر.
هدف Fermi هنا هو أن يدفع الطّلبة إلى اتباع أسلوب علمي في توقعاتهم في تقسيم المشكل الحالي إلى مشاكل أصغر يسهل التحكم فيها بشكل متواصل. فمثلا بدل أن يُجيب بأرقام عشوائية، سيحتاج الطالب إلى معرفة: عدد أجهزة البيانو في مدينة شيكاجو أولا وهو ما يتطلب معرف عدد أجهزة البيانو لكل ألف نسمة إضافة إلى عدد المؤسسات التي قد تملك أجهزة بيانو أيضًا.
ومن ثم سيحتاج إلى توقع عدد الساعات التي يتطلبها كل جهاز لضبطه بشكل دقيق وعليه سنحسب عدد الأجهزة التي يستطيع كل piano tuner أن يضبطها في السنة (بعد الأخذ بالحسبان العطل السنوية والوقت اللازم للانتقال من جهاز إلى آخر وما إلى ذلك). وبناء على ذلك يُمكن أن نحسب قيمة تقريبية لعدد الـ piano tuners التي تحتاجها مدينة مثل شيكاجو.
لكن ماذا لو لم يكن يعرف السائل عدد سكان مدينة شيكاجو من أساسه؟ رغم أنه سيجهل تلك المعلومة فإنه سيعلم بأنها ثالث أكبر مدينة في أمريكا وقد يعرف عدد سكان أكبر مدينة ويقيس عليها.
بعبارة أخرى، حتى ولو كانت كل هذه العملية عبارة عن توقعات وتقريبات مبنية على أخرى فإنه ستكون أدق وأقرب إلى الحقيقة لأنها تتبع أسلوبًا علميا ومنهجًا مدروسًا، وبمجرد أن تتوفر معلومة من المعلومات التي بُني عليها التوقع (كأن نعرف مثلا بدقة عدد سكان المدينة أو عدد أجهزة البيانو الموجودة فيها) فيمكن ضبط التوقع بشكل أفضل لنحسن على تنبؤ أدق.
هامش: لدى وصولي إلى هذه النّقطة في الكتاب تذكّرت أحد الأسئلة التي تطرحه بعض الشّركات التقنية الأمريكية على المُتقدّمين لوظائف لديها، من قبيل “كم كرة جولف يُمكن أن نضعها في غرفة من حجم كذا وكذا” والتي تبدو “سخيفة”، لكن يبدو بأن الهدف هو معرفة ما إذا كان المُتقّدم إلى الوظيفة سيقدّم رقمًا عشوائيًا فقط أم أنّه سيُحاول تحليل السّؤال إلى مشاكل أصغر يُمكن التّحكم فيها بشكل أفضل على طريقة Fermi. قد لا يكون هذا هو تفسير ذاك، لكن وددت الإشارة إلى الأمر هنا.
المتنبئون الخارقون يهتمون بالصورة الأعم قبل الخوض في التفاصيل ويعدّلون توقّعاتهم حسب المعلومات الجديدة التي يحصلون عليها
في الكثير من الأحيان كثرة التفاصيل ستأخذك في الاتجاه غير الصحيح. لتوضيح هذه الفكرة يضرب الكاتب هذا المثال. لنفرض بأنّه طُلب منك حساب احتمالية أن تملك عائلة أمريكية من أصل إيطالي حيوانًا أليفًا مع العلم الأسرة تتكون من أب وأم وطفل وجدّة وأن رب الأسرة يعمل مُحاسبًا وأن الأمر تعمل بدوام جزئي.
الخطأ الذي يقع فيه العامة (والذي لا يقع فيه المتنبئون الخارقون) هو المسارعة لتحليل هذه البيانات وإطلاق توقّع بناء عليها للإجابة على السؤال بشكل سريع. فقد تتوقع أنه وبمجرد وجود طفل في البيت فإن احتمال امتلاكه لحيوان أليف مرتفع جدًا.
لكن المتنبئ الخارق سيسلك طريقًا مُغايرًا، حيث أن أول ما سيقوم به هو البحث عن نسبة العائلات الأمريكية التي تملك حيوانًا أليفًا (بحث سريع على جوجل سيعطيك إجابة على ذلك ولنفرض أنها 62 بالمئة). بناءً على هذه المعلومة سيكون بإمكانه “ضبط” توقّعه بناء عليها. وعليه فإن توقّعه سيكون أدق (لأنه مبني على أدلة وأرقام صحيحة).
بعبارة أخرى، يجب الاعتماد على الحقائق العامة قبل مُحاولة استخدام أية معلومات أو تفاصيل يُمكن أن تكون جانبية لرسم تصوّر أدق للقضية التي المراد التّنبّؤ بها.
المتنبئون الخارقون لا ينقشون تنبؤاتهم على الحجر وإنما يقومون بتحديثها باستمرار
أحد الميزات التي تميّز المُتنبّئين الخارقين مُقارنة بغيرهم هو أنهم لا “يتعلّقون” كثيرًا بتنبؤاتهم حيث أنهم يقومون بتحديثها باستمرار بناءً على المعلومات الجديدة التي تردهم. فعلى سبيل المثال إن حدّد أحدهم أن نسبة وقوع حدث ما هو 60 بالمئة وقرأ تقريرًا إخباريًا يحتوي معلومات أو تفاصيل جديدة لم تكن معروفة من قبل حول الأمر، فإن المُتنبّئ الخارق سيقوم بتحديث النّسبة آنفة الذّكر بناءً على ذلك. رغم ذلك فإن توفر معلومات إضافية لا يعني بالضّرورة توفّر معلومات مفيدة، فقد تقع ما بين المُتنبّئ تقارير قديمة يحسبها جديدة، أو بيانات غير دقيقة، وبالتالي فالمسألة ليست مجرد مسألة تجميع لأكبر قدر من البيانات بقدر ما هو حسن اختيار للبيانات التي يجب أخذها بالحسبان.
خلاصة
الفكرة التي يرغب الكتاب في إيصالها هي أن استقراء المُستقبل واستشرافه (على المدى القصير) ليس موهبة أو ضربًا من الخيال، بل هو أمر مُمكن، حيث أنه أمر يعتمد أسلوبًا علميًا مبنيًا على تجميع البيانات المُناسبة وتحليلها، الاحتفاظ بسجلّ للتّوقّعات السّابقة لقياس مدى دقّتها وتحيين التّوقعات القادمة بناءً عليها، والبقاء على اطّلاع بما يستجد من أحداث في المجال الذي يُجرى التّنبّؤ فيه.
في رأيي، الكتاب لا يدخل في خانة الـ must-read (يعني الكتب التي أعتقد بأنه يجب على الجميع/المُهتمّين بالمجال قراءتها) لكنّي أصنّفه في خانة الكتب التي تضيء لك الطّريق لتتعرف على أشياء لم تكن تعلم أصلًا بوجودها (يعني على الأقل أن نكون على علم بما لا نعلمه).
تنويه: هذا ليس مُلخّصًا للكتاب وقراءة هذا “المقال” لا يُغنيك عن قراءة الكتاب.
إن كنت ترغب في قراءة الكتاب فيُمكن شراءه على أمازون عبر هذا الرّابط: http://amzn.to/29OJa3I