هل هناك فعلًا شركات ناشئة/ ريادة أعمال في الجزائر؟
نُشر يوم 6 فيفري 2015 بواسطة يوغرطة بن علي (Youghourta Benali)
العالم كلّه يتحدّث عن ريادة الأعمال entrepreneurship ، والجزائر لا تُشكّل استثناءً لهذه القاعدة. من يُتابع ما يُكتب حول هذا المجال يُخيّل إليه بأن إنشاء شركات ناشئة هي الخلاص والمخرج من الأزمات الاقتصادية بل وحتى الطريق الذي يجب أن تسلكه للثراء السّريع.
في الجزائر، تُقام المؤتمرات التي تحتفي بريادة الأعمال، وتُنظّم المُسابقات لتشجيع إنشاء شركات ناشئة سواءً في القطاعين العام والخاص، بل وأطلقت الدّولة حاضنة مشاريع (أو أكثر) منذ سنوات، حاضنة مشاريع كنت شخصيًا ضمن دورتها الأولى وأمضيت فيها شهورًا طويلة مُحاولا إطلاق مشروع يتعلّق بالدّفع الإلكتروني لم يُكتب له النًجاح في نهاية المطاف. قد يقول قائل: “الآن فهمت، لم تنجح أنت وبالتالي ترغب التشكيك في وجود وجدوى ريادة أعمال والشركات الناشئة في الجزائر” قد يكون للأمر علاقة بذلك، لكن دعني أستعرض وجهة نظري فلربما يكون فيها بعض من الصّحة.
ما هي الشّركة الناشئة؟
بداية دعونا نتفاهم على تعريف مُصطلحي “ريادة الأعمال” و"شركة ناشئة” لتتوضح الصورة أكثر. يبدو بأن هناك إجماع عالمي بأن Y Combinator هي أفضل حاضنة مشاريع على الإطلاق وبالتالي فمن الطّبيعي أن نرجع إلى مؤسسها Paul Graham في بعض التعاريف. حسب هذا الأخير startup = growth.في مقاله الذي يشرح فيه هذه الفكرة، يُشير Graham بأنه لا يُشترط في الشركة أن تكون حديثة النشأة أو أن تكون في المجال التقني، أو أن تحصل على تمويل أو أن تملك خطّة خروج exit لتكون شركة ناشئة، كل ما يهم هو النمو والنمو السريع فقط.
بعبارة أخرى، إن كنت تُدير شركة تطوير مواقع وتطبيقات هواتف ذكية (نوع الخدمات التي لا يُفترض به بالضرورة أن ينمو بشكل سريع جدًّا)، فهذه ليست بالضرورة بشركة ناشئة. لكن في المقابل لو كنت تبيع البطاطا بشكل يجعل من الجميع يرغب فيها وإن كنت قادرًا على النّمو بشكل سريع وعلى الاستحواذ على قسم هام من السوق (الكبير نسبيًا) الذي تستهدفه فهذه شركة ناشئة.
ما مقدار النّمو الذي نتحدّث عنه (أي مقدار النّمو الذي يجعل من مشروعك شركة ناشئة)؟ ينظر Graham إلى الأمر من زاوية أخرى، فيقول بأنه بدل أن نطرح هذا السؤّال فإنه من الأفضل أن نتساءل عن النّسبة التي تُسجّلها عادة الشركات التي توصف بالناشئة، حيث يُشير إلى أنه يُطلب عادة من الشّركات التي تنضم إلى حاضنته أن تُسجّل نموًّا ما بين 5 إلى 7 بالمئة… أسبوعيًا.
الآن وبعد أن فهمنا هذا التّعريف، فمن هو رائد الأعمال Entrepreneur ؟ كما هو واضح، فإنه ليس كل من يُغيّر تعريفه على ملفّه الشخصي على LinkedIn (أو حتى على تويتر وفيس بوك) إلى Entrepreneur (أو ربما حتى إلى Founder و/أو CEO) هو رائد أعمال. وليس كل من يُمنّي نفسه إطلاق مشروع تقني (في حين أنه يشغل وظيفة بدوام كامل وعلاقته بمشروعه الذي “يعمل” عليه لا تتعدّى حجز اسم نطاق وصفحة فيس بوك) هو رائدة أعمال، بل رائد الأعمال هو من أطلق مشروعًا يُمكن وصفه بالشركة الناشئة وفق التعريف السّابق، أو على الأقل حاول (فعليًا وليس مُجرّد أمنيات) حتّى وإن لم يصل إلى مُبتغاه.
على الجانب، بالرغم من شيوع مُصطلح “مُقاول” للحديث عن Entrepreneur فلا أحبّذ استخدام هذا المُصطلح لارتباطه الوثيق بعالم العقّار والمشاريع التي تدور في فلكه (إضافة إلى السمعة السيّئة التي يحظى بها هذا الوصف في الكثير من الأوساط).
هل هُناك شركات ناشئة في الجزائر؟
لو سألت أي شاب مُهتم بمجال ريادة الأعمال في الجزائر عن الشركات الجزائرية الناشئة التي يعرفها فسيحدّثك مُباشرة عن واد كنيس وقد يعجز عن تسمية أية شركة ناشئة أخرى ( هل سيذكر لك مثلا intellix، ِAlania CRM أو IO Grow؟ لا أعتقد ذلك). ما الذي يعنيه ذلك؟ واد كنيس هي الاستثناء الذي يؤكد قاعدة عدم وجود شركات ناشئة في الجزائر..
لكن هل فعلا واد كنيس شركة ناشئة؟ صحيح بأن الشركة تقدّم خدمة جليلة وتسيطر على جزء كبير من سوق الإعلان المُبوّب على الإنترنت في الجزائر لكن لا يبدو بأنها تنمو بالشكل الذي نمت عليه في السابق. شخصيا أرى بأن واد كنيس كانت شركة ناشئة في السابق ووصلت إلى مرحلة النُضج، وهو أمر لا يعيبها فوصف “شركة ناشئة” هو وصف يُطلق على مرحلة من مراحل نمو شركة ولا يلتصق بها إلى الأبد (نفس الأمر ينطبق على الكثير من الشركات الناشئة التي وصلت إلى مرحلة النضج).
لكن ما الذي يمنع وجود شركات ناشئة في الجزائر؟ قبل الإجابة على هذا السؤال ربما يجب أن نطرح سؤالًا آخر، هل فعلا نحن في حاجة إلى شركات ناشئة؟ قد لا يكون الجواب مُباشرًا وبالإيجاب بالضرورة.
لنضرب المثال التالي، لنفرض بأننا في دولة فقيرة مثل التشاد مثلا (أضرب مثالا ببلد فقير، احتمال أن يكون أحد قرّاء هذا المقال منه ضعيف حتى لا أتعرض للنقد لو اخترت بلدا آخر). في رأيك ما احتمال أن ينجح مشروع إنشاء عيادة طبيّة مُتخصصة في الجراحة التجميلية بشكل عام وفي جراحة تضخيم الشفاه بشكل خاص. لا يحتاج الأمر إلى تفكير طويل لنعرف بأن هذا من كماليات الكماليات التي لا يحتاجها أهل التشاد بل هم أحوج ما يكونون إلى مُستشفيات تُعالج الأمراض التي يُعانون منها. حتى ولو افترضنا جدلا وجود زبائن تشاديين يرغبون في الاستفادة من خدمات هذه العيادة فإن عددهم سيكون محدودًا جدا بشكل لا يسمح بالتربّح من المشروع حتى ولو دفع كل واحد منهم 10 أضعاف السعر الذي سيدفعه لو زار عيادة في بلد مُتطوّر. بعبارة أخرى، إطلاق مثل هذا المشروع في التشاد هو ضرب من الجنون لكنه قد يسجل أرباحًا خيالية في بلد أوروبي مثلا.
لكن ما علاقة هذا بذاك؟ الأمر بسيط لو عدنا إلى الجزائر فسنجد أن أغلب مُحاولات إطلاق شركات ناشئة لا تُعالج مشاكل حقيقية تحتاجها السوق المحليّة بل هي مُحاولة لتقليد لما هو مُتوفّر لدى الغرب بصبغة جزائرية، مُنتجات قد تحّل مشاكل حقيقية لدى الغرب (مثل الجراحة التجميلية المُتخصّصة في الشفاه فقط) لكن المُشكل ثانوي لدينا.
لكن كيف يُمكن لمُشكل أن يكون حقيقيًا لدى غيرنا ويكون خياليًا بالنسبة إلينا؟ ربما “المشكل” ليس في طبيعة المُشكل في حد ذاته وإنما في الأوليات فقط وفي ترتيبها. لاحظ مثلا بأن أغلب المُحاولات التي نشاهدها على السًاحة هي محاولات لإطلاق مُنتجات موجّهة إلى الأفراد بشكل مُباشر B2C (على طريقة فيس بوك وأخواتها التي يُكتب عنها على techcrunch وأخواتها)، في حين أنه يندر مثلا أن نسمع عن شركات تُحاول حلّ مشاكل حقيقية للشركات (نعم، هناك شركات تحّل مشاكل حقيقية سواء كانت للسوق المحلية أو لغيرها، لكن هل تحتفي بهم وسائل الإعلام؟ ألق نظرة على مُنتجات المواقع التي سبق وأن ذكرتها).
بعبارة أخرى، ما يجعل من حل مشكل ثانوي لدى الغرب أمرًا مُجديًا قد ينتج عنه إطلاق شركة ناشئة هو كون “المشاكل الكبرى” قد تمّ حلّها وتتوفّر لديهم خدمات ومُنتجات تحل أغلب مشاكلهم ولم يتبق أمام الدّاخلين الجُدد إلى هذه السّوق سوى التنافس على الكماليات. السوق الأمريكية مثلا لم تبدأ بفيس بوك وتويتر، لكن بدأت بأنظمة تشغيل وبشركات لتصنيع الحواسيب الشخصية، ثم انتقل الأمر إلى أنظمة قواعد البيانات والتطبيقات المكتبية، ثم إلى مُختلف التطبيقات التي تحتاجها الشركات ثم الأفراد ثم… ثم ثم نصل إلى فيس بوك وتويتر وأخواتها. بمعنى لم يعد مُجديًا إطلاق حزمة مكتبية مثلا (كشركة ناشئة) بل يجب التركيز على الأمور الثانوية التي لم تحل بعد.
أمر آخر وهو أن حجم السوق ليس بالكبير. حسب أفضل التقديرات فإن تعداد الشعب الجزائري لا يتجاوز 40 مليون نسمة. والفئة التي يُمكن استهدافها هنا صغيرة جدًا (خاصة في مجال b2c)، وبالتالي فإن احتمال النمو السّريع قليلة جدًا.
ما الحل إذن؟ سبق وأن قدّمت عرضًا حول ريادة الأعمال في الجزائر في حدث GeekFtour/Ignite الذي عُقد منذ سنتين وكانت التوصيات التي خرجت بها حينها على النّحو التالي:
1 التركيز على الخدمات والمُنتجات المُوجهة للشركات وليس للأفراد B2B حيث أنه لدى هذا القطاع مشاكل حقيقية تحتاج إلى حل، لكنها مشاكل ليست sexy ولن يُكتب عنك لا في techCrunch ولا حتى في يومية جزائرية إن قدّمت مُنتجا لحلها.
-
الابتعاد عن أية مُنتجات تحتاج إلى دفع إلكتروني، مما يُرجعنا إلى النقطة الأولى. لدى التعامل مع الشركات فإنها لن تستثقل الذهاب إلى البنك للقيام بتحويل بنكي (أو إرسال صك) مقابل خدمتك أو مُنتجك في حين بأن الأمر يختلف بشكل كبير مع الأفراد
-
لمن لا يرغب في دخول عالم B2B فما عليه سوى مُحاولة ركوب موجة الانتشار الواسع لهواتف أندرويد خاصة مع إطلاق اتّصال 3G.
قد لا تزال هذه التوصيات صحيحة، رغم أنني أصبحت أنفر من أي مُنتجات b2c (النقطة الثالثة). ربما يُمكن إضافة نقطة أخرى قد تناقض النقاط السابقة بشكل ما وهو استهداف أسواق خارجية (أو إطلاق خدمات يُمكن استهداف الأسواق الخارجية بها في فترة قادمة).
لا يزال هناك نقص فادح في برمجيات قاعدية مثلا، في برامج لإدارة الشركات، لإدارة المُستشفيات، لإدارة المؤسسات التعليمية، لإدارة الجمعيات والمكتبات…. وهلم جرًا. بل ونقوم باستيراد تطبيقات جاهزة من الأسواق المغربية والتونسية وحتى الفرنسية لتغطية جزء من هذا النقص.
ماذا عن التمويل؟
لا يُمكن أن نتحدّث عن الشركات الناشئة من دون أن نتحدّث عن التمويل. الاعتقاد السائد لدى الفئة التي يهمّها الأمر وهو أن المُستثمرين الجزائرين (وربما حتى في أغلب البلدان النامية) هو مستثمرون من العصر الحجري لا يفهمون في التقنية شيئا ولهذا لا يستثمرون في الشركات الناشئة(عقلية لوم الآخر في كل الإخفاقات مُتفشية بشكل كبير ولا تقتصر على لوم المُستثمرين فقط).
لو عدنا إلى مثال الخدمات الثانوية في الغرب ولماذا تحصل على تمويل فإننا سنلاحظ تشابها وتقاربا ما بين الأمرين. ما يدفع المُستثمر الغربي إلى الاستثمار في الشركات الناشئة هو أن سبل الاستثمار الكلاسيكية (الصناعة، العقّار، الفلاحة …) لم تعد مُجدية كالسابق والفوائد التي سيُحقّقها محدودة وبالتالي فإن من بين الحلول القليلة التي تبقى أمامه هو الاستثمار في شركات ناشئة أو الاستثمار في المُستعمل (شراء أسهم شركات مُختلفة في البورصة). الوضع مختلف لدينا كلّية. لماذا سأستثمر في شركة ناشئة احتمال فشلها كبير جدًا إن كان الاستثمار في العقّار مثلا أو حتى في الصناعة (أيا كان المُنتج الذي أرغب في تصنيعه محليا بدل استيراده) أو حتى الاستيراد مضمونا نسبيا بل وسيحقق فوائد جيّدة وسريعة نسبيًا. بمعنى، المُستثمر الجزائري ليس مُضطرًا إلى الاستثمار في الشركات الناشئة فسوق الاستثمار لديه في المجالات الكلاسيكية لا يزال فارغًا (لا زلنا نحتاج بناء وتوفير كل شيء) وبالتالي فإن عدم اسثمارهم لا يعود لتحجّر في عقولهم وإنما قد يرجع إلى حنكة وإلى فهم للأمور بشكل أوضح.
أعود إلى الفكرة التي افتتحت بها المقال، لا وجود لريادة أعمال في الجزائر ليس لنقص أو عيب فينا وإنما لأننا لسنا في حاجة إلى هذا الأمر بعد (تمام مثلما أن التشاد ليس في حاجة إلى المُتخصصين في الجراحة التجملية لبعض أطراف الجسم) ما نحتاجه هو شباب طموح لا يُلقي بالا للألقاب والمُسمّيات والهرج والمرج الذي يدور حول ريادة الأعمال ويقوم بحل مشاكل حقيقية في السوق الجزائرية. يقوم بتوفير مُنتجات وخدمات للشركات بشكل خاص يقوم بمحاولة التقليل من التّبعية للاستيراد سواء تعلّق الأمر بمُنتجات تقنية أو حتى بمنتجات ملموسة.
دعونا من المثال الغربي لإطلاق وإدارة الشركات فالوضع لديهم مُختلف عن الوضع لدينا بكثير، ربما من الأفضل مقارنة الوضع لدينا بالوضع لديهم في الثمانينيات وبدايات التسعينيات أين كان الاهتمام بتوفير الأساسيات. حين نوفر كل تلك الأساسيات (وخاصة لقطاع الشركات) فحينها سأكون أول من سيرحب بالاهتمام بالثانويات بل وسأشجعك على إطلاق عيادة للجراحة التجميلية لو كان هذا ما سترغب في القيام به وسأشجع رائد آعمال آخر على توفير نظام لإدارة عيادتك لك.
لا توجد شركات ناشئة ولا ريادة أعمال في الجزائر لكن هناك شركات تقنية تحاول تقديم حلول حقيقية لمشاكل حقيقية، كما أن هناك حاجة ماسة لجميع الشركات الكلاسيكية على اختلاف ما تُنتجه وما تقدّمه من خدمات.
همسة: كم من Startup weekend تم تنظيمها في الجزائر؟ كم من شركة ناشئة حقيقية (أي توفر خدماتها ومُنتجاتها في السوق) نتجت عن ذلك؟
همسة2: اترك مُسميات Entrepreneur / Founder / CEO (وحتى Public Figure) جانبًا وركّز على الأهم
همسة 3: ريادة الأعمال ليست للجميع، تمامًا مثل أن المُحاسبة، الطب، البرمجة ليست للجميع.
همسة4: هذا المقال يُعبّر عن رأيي الآن، قد أغيّر رأيي في الأمر برمّته لاحقا (سبق وأن غيرت آرائي في أمور كثيرا من النقيض إلى النقيض :) ).
همسة5: لتفهم السوق الجزائرية خاصة في المجال التقني بشكل جيّد، ستحتاج إلى مُتابعة أشخاص لهم خبرة معها. أنصحك بمُتابعة عبد المالك شتى الذي سيُحدّثك من واقع تجربته الشّخصية (بعض أفكار هذا المقال مُستوحاة إما من حديثي معه أو مما يكتبه على حسابه على فيس بوك).