هل أصبح المُحتوى عالي الجودة مُهددا بالانقراض؟ وهل نشر المحتوى قليل الفائدة شر لا بُد منه؟

نُشر يوم 17 سبتمبر 2013 بواسطة يوغرطة بن علي (Youghourta Benali)


إن كنت تتابع ما أنشره هنا على المجلة التقنية أو على باقي مواقع الشبكة، فإنك قد لاحظت (وربما قد مللت) من كثرة حديثي حول المُحتوى عالي الجودة. بغض النظر حول ما إذا كان ما أتحدث عنه مُجرد “تظاهر” لإعطاء الانطباع أن ما ننشره هو فعلا مُحتوى عالي الجودة -لنوهم من لم نوهمه بعد بذلك- (يقولون بأنه يكفي أن تكرر نفس الكذبة ليُصدقك الجميع)، أو هو فعلا بتلك الجودة التي ندعيها (أو على الأقل تنشدها)، إلا أن التغريد خارج السرب يُعطيك الانطباع أن ما تتحدث عنه هو أمر غريب، بل ربما يجب السير في نفس اتجاه التيار إن أردت أن تصل بما تنشره إلى عدد أكبر من الناس.

25_IMG_3183-Edit.jpg

أحيانا تكون لديك أفكار، يصعب عليك التعبير عنها (سواء عن طريقة الكتابة أو الحديث) بشكل مُنظم يعطيها حقها، لكن أحيانا يكفي أن يكتب غيرك عن الأمر لتقول في قرارتك نفسك -وبمُجرد أن تنهي قراءة ذاك المقال- : “يا رجل، فعلا هذا ما كنت أفكر فيه”، وهو ما حدث معي مع مقال على موقع pandodaily عنونه صاحبه بـ The market for idiocy (سوق الحماقة ) والذي يتحدث عن أزمة المحتوى الجاد على الإنترنت (أبشر، المُشكلة ليست مشكلة عربية، وكما يقول المثل “إذا عمّت خفّت”).

لتلخيص الأمر، يعود بنا كاتب المقال (تجنبا للتكرار سأكتفي بهذا القدر من الإشارة إلى المقال بشكل مباشر، حيث أن كامل هذا المقال مُستوحى منه) إلى مقال نشره الاقتصادي جورج أكرلوف والذي نشر بحثا -قبل سنوات طويلة من حصوله على جائزة نوبل- حول ما أسماء بـ “سوق الليمون” والذي يتحدث فيه عن الشك الذي يحوم الأسواق التي يصعب فيها معرفة جودة السلعة المعروضة، وآليات الأسواق المُتعلقة بذلك.

يُمكن تلخيص الأمر بالتالي:

في سوق يصعب معرفة جودة السلعة المعروضة للبيع كسوق السيارات المُستخدمة ( يُستعمل مُصطلح ليمون أو Limon في الإنجليزية للحديث عن السيارات (أو أي سلع أخرى) لا تظهر عيوبها إلا بعد شرائها Lemon (automobile) ) فإنه وبسبب صعوبة معرفة صدق البائع ومعرفة جودة السيارة المعروضة للبيع يعرض المشتري عادة شراء تلك السيارات بأسعار السيارات التي يُفترض بها أن تحتوي على عيوب بحكم أنه يصعب عليه (على المشتري) معرفة القيمة الحقيقية للسيارة بسبب عدم تأكده من جودتها. هذا الوضع يفرض على صاحب السيارة الخالية من العيوب الامتناع عن البيع، وهو ما سيدفع بسوق السيارات المستعملة إلى أن يعُج بالسيارات التي تملك عيوبا. بعبارة أخرى سيتحول السوق إلى “سوق ليمون”.

هل تحولت المجلة التقنية إلى مجلة اقتصادية أو لبيع السيارات المُستخدمة؟ اصبر قليلا لتعرف علاقة هذا بذاك.

كما هو معروف فإنه يُفترض بشبكة الإنترنت أن تكون “سوقا” مفتوحة لعرض وتبادل المعارف، الأفكار والمحتويات على مُختلف أنواعها. لكن بحكم أن الإنترنت “سوق” مفتوحة للجميع، فإنها لم تتعرض لأزمة “سوق الليمون” فحسب، بل تعدتها لتصبح “سوقا للحماقة”.

ومثلما هو عليه الحال مع سوق السيارات المُستخدمة، والتي فيها أشخاص يُضطرون أو يقبلون ببيع سياراتهم الخالية من العيوب بالأسعار التي تُفرض عليهم في تلك الأسواق، فإن الإنترنت قد فرضت على الجميع (أو تقريبا) أن يعرضوا محتوياتهم بنفس السعر المجاني، سواء كان المُحتوى الذي يقدمونه عالي أو عديم الجودة، ومثلما يُضطر أو يقبل البعض ببيع سياراتهم بأسعار أقل، نجد أن هناك من يقبل بعرض محتوياته الثمينة من دون مقابل.

قد يقول قائل بأن أسواق السيارات المستخدمة ليست بالسوء الذي تحاول تصويره لنا، حيث أنه بإمكان الكثيرين التفريق ما بين الغث والسمين، قد يكون ذلك صحيحا، لكن حال الإنترنت مُختلف، حيث أنه يصعب على مستخدمي الإنترنت بشكل عام (أو كجماعات وليس كأفراد) التفريق ما بين النوعين (أو ربما لا يكترث أكثرهم لذلك). يكفي أن نلقي نظرة على أكثر المحتويات انتشارا (خاصة تلك التي تنتشر وفق ما يُعرف بالانتشار الفيروسي) لتجد أن أغلبها فارغ المُحتوى، إما فيديو مُضحك، مجموعة صور طريفة، وفي أفضل الحالات قوائم من 5 أو 10 عناصر (وربما أكثر) لأشياء مختلفة (كأفضل 10 إعلانات يجب عليك مشاهدتها).

يكفي أن ترى أكثر المواضيع “التافهة” الأكثر انتشارا على موقع Mashable مثلا لتكون صورة أوضح حول الأمر، أو أن تعرف بأن موقعا مثل BuzzFeed يحقق معدلات زيارات شهرية تفوق ما تحققه وكالة Reuters، وصحيفتا Wall Street Journal وnew York times مُجتمعة، رغم أن الموقع لم يمض على إطلاقه سوى 4 سنوات. بعبارة أخرى، وصف سوق الإنترنت بأنه “سوق حماقة” أقرب ما يكون من الصحة.

ما يزيد الطينة بلة هو مشاركة الوسائل التي نكتشف بها المحتويات التي نستهلكها على الإنترنت في هذه الجريمة. فعلى سبيل المثال تقوم Google بتخصيص نتائج البحث حسب أذواقك وما قمت باستهلاكه من محتويات من قبل، كما أن نوعية أصدقائك على فيس بوك هي التي ستقرر نوعية المحتويات التي ستصلك على هذه الشبكة. بعبارة أخرى، استهلاك محتويات عديمة الجدوى سيدفع إلى استهلاكك المزيد منها. رغم أن مساعي Google لإعطاء المُحتوى عالي الجودة حقه لا يُمكن إنكارها، وآخر ما قامت به في هذا المجال هو إضافتها لقسم “المقالات المُعمقة" في نتائج البحث على مُحركها.

بالرغم من أنه بإمكاننا كأفراد معرفة المحتويات عالية الجودة من غيرها، إلا أننا نفضل -رغم ذلك- المساهمة في نشر المحتويات الفارغة، وهو ما يُعزز من فرضية أن السوق الذي نتسوق فيه حاليا هي سوق بائرة، وأن المحتوى عالي الجودة مُهدد بالانقراض في “أسواق الحماقة” إن هي استمرت على هذا الحال.

ماذا عن الويب العربي؟ قد لا تكون لدينا مواقع مثل Mashable أو BuzzFeed (ربما هي مسألة وقت فقط، أو هي فعلا موجودة لكن لا علم لي بها) لكنه ليس أفضل حالا، حيث أنه لا يُعاني من نفس المشاكل آنفة الذكر فحسب (ألق نظرة على Youtube مثلا لتجد أن من بين كل 5 فيديوهات تشاهدها يُحتمل أن تحتوي إحداها على كلمة “فضيحة” في عنوانها)، بل زادت الكوارث اللغوية الأمر سوءا وهو ما يجعل مثلا من مهمة التحقق من صحة كلمة أو جملة باللغة العربية على Google مثلا أصعب من إيجاد إبرة في كومة قش (وهو أمر مُمكن مثلا لما يتعلق الأمر باللغتين الفرنسية أو الإنجليزية)، حيث أن كل الأخطاء الُممكنة التي تود تجنب الوقوع فيها هي أخطاء كثيرة الانتشار على الويب (أعلم أن بعضكم سيشرع في البحث عن أخطاء في هذا المقال بمُجرد ذكري للأمر. همسة: هناك 3 أخطاء إملائية/لغوية في هذا المقال تُركت خصيصا لك، هل بإمكانك إيجادها؟).

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل خلط المحتويات بمُختلف درجات جودتها بعضها ببعض في نفس المواقع هو شر لا بد منه (لتمرير بعض الجودة وسط كومة من “الفراغ”) أم أن هناك حلولا أخرى لهذه المُعضلة؟